الانسان التائه بين الزمان القبلى والزمان البعدى
تعددت الازمنة , والانسان واحدا , يعيش وحيدا فى مواجهتها . فالانسان هو الكائن الوحيد الذى يعى الزمن ويشعر به , وذلك فى حين يسير غيره من الكائنات وفق الية محددة مسبقا , ولهذا استحق الانسان ان يوصف بانه كائن زمانى .
والازمنة عديدة : فهناك زمان خارجى ؛ وهو الزمان الذى نقيسه بالثوانى والدقائق .. الخ , وهناك زمان داخلى , وهو زمان حياتنا الداخلية ؛ هو زمان الشعور , وهذا الزمان لا يخضع للقياس بل يفر من كل تحديد .
وفوق هذين الزمانين يقع زمان نطلق عليه " زمان الصيرورة " ؛ وهو الزمان الذى تلتحم فيه آنات الزمان الخارجية بآنات الزمان الداخلية , وذلك بحيث تصير كل ثانية محملة بالمشاعر والاحاسيس . ففى كل لحظة زمانية يتملك الانسان احساس ما تجاه شئ ما ؛ فلا توجد لحظات زمانية تخلو من ادراك شعورى اللهم اذا توقف الانسان عن الاحساس بالزمن .
وينقسم زمان الصيرورة الى زمانين : الزمان القبلى ؛ وهو يمثل الماضى الشعورى للانسان . والزمان البعدى ؛ وهو يمثل المستقبل الشعورى للفرد . وبين هذين الزمانين هناك زمان اللحظة الراهنة ؛ وهى تمثل الحالة الشعورية للمرء كما يكابدها الان .
لو تاملنا هذه الازمنة الثلاث السابقة سنجد ان الزمان القبلى قد يحمل بنية ايجابية تدعم فهم الفرد على المستوى الشعورى لمستويات الاحداث التى يمر بها فكتسب اللحظات الراهنة دعما ايجابيا , وقد ينطوى الزمان القبلى على خبرات سلبية تنعكس سلبا لا على مدى ادراكه للحظات التى يعيشها فقط , بل تنصرف لتشمل توقعاته لما سوف يكابده فى المستقبل .
وهنا يجد الانسان نفسه فى هذا الزمان - واعنى به زمان الصيرورة - فى مواجهة ازمة الاختيار فاما ان يعيش فى اسر الزمان القبلى او يقذف نفسه نحو الزمان البعدى . اذا اختار الانسان الاسر فسوف تتحول لحظاته الراهنة والمستقبلية الى لحظات استاتيكية فلا فرق بين هذه اللحظة وبين اللحظة التى سوف تاتى بعد 10 سنوات فكل اللحظات اصبحت تحمل لون واحد . هنا الانسان لا يعيش الزمان , ولكنه تحول هو ذاته الى مجرد حدث من ضمن احداثه , وبمعنى اخر تم اختزاله داخل الزمن . اما اذا اختار الانسان المجازفة وراهن على ان هذه اللحظة لا تشبه اللحظة الماضية وانه يمكن اعادة تطويعها شعوريا حتى تصبح لحظة حية فهنا يقذف الانسان بنفسه نحو زمن تحقيق اللحظة لا مجرد معايشتها .وعندما يقذف الانسان بنفسه داخل هذا الزمان فهو يؤكد حريته , وقدرته على الاختيار .
لهذا كان زمن الصيرورة هو التعبير الحقيقى عن التناقضات التى تعترى الانسان : الوجود والعدم , الحياة والموت , الحرية والعبودية , الخير والشر .
ولمواجهة هذا الزمان لابد من ان يختار الانسان اما ان يحقق اللحظة او يترك اللحظة تحققه , وبمعنى اخر اما ان يصنع المحتوى الشعورى للزمان او يترك للزمان صياغة مشاعره واحاسيسه .
ولا يستطيع الانسان تجاوز التناقضات الا من خلال ممارسة الحرية والشعور بالقدرة على تجاوز اللحظة القبلية السلبية فى مقابل لحظة بعدية ايجابية . وهنا يؤكد الانسان وجوده باعتباره المخلوق الوحيد الذى يدرك تمام الادراك معنى الزمان وقيمته , لانه الكائن الوحيد الذى يعطى للاشياء التى توجد داخل هذا الزمان قيمتها ومعناها .