ان التناقضات الانسانية لتناقضات جديرة بالملاحظة , فى عالم لم تعد السيادة فيه سوى للملاحظة , فى عالم غابت فيه القيمة , وغاب معها الانسان , كان لابد لنا من وقفة نسأل فيها اين ذهب الانسان ؟
دعونا نعود الى البداية عندما خلق البارى عز وجل الانسان , وذلك ليكون خليفته على الارض ؛ لقد ميز الله الانسان بالفكر والاخلاق ؛ فالانسان كائن مفكر , وذلك لانه يستطيع ان يقبل سلوكا ويستهجن اخر , كذلك الانسان كائن اخلاقى , وذلك لانه يستطيع التمييز بين الخير والشر , وبين ما هو نافع وبين ما هو ضار , فيؤثر الخير ويتجنب الشر , ويسعى للنافع ويدفع عن نفسه ما هو ضار .
والان ماذا يحدث اذا تنازل الانسان عن فكره واخلاقه , هل نستطيع ان نصف الانسان حينئذ بانه انسان ؟
فى الواقع لا . بل اكثر من ذلك ربما تحول لقب انسان الى لقب فخرى ربما استحقته عن جدارة بعض الكائنات الاخرى !! فما يميز الكائنات غير الانسانية هو عدم تجاوزها لحدودها الحيوانية فتبقى على الدوام داخل ذات النسق الغريزى الذى فطرت عليه , وهو ما لا نجده فى حالة الانسان الذى يملك تلك الغرائز الحيوانية , ولكنه يتجاوز المملكة الحيوانية فى قدرته على التنوع السلوكى والاخلاقى , وهو ما لا تستطيعه هذه الكائنات ان تفعله , ولكن بقاء مثل هذه الكائنات داخل نفس النسق الغريزى يجعل من اليسير التنبؤ والتوقع بسلوك هذا الكائن او ذاك , وهو ما ينطبق بصورة كليه على المملكة الحيوانية وجزئيا فى المملكة الانسانية , ونقول جزئيا لان الانسان بحكم كونه كائن مفكر واخلاقى لا يقدم فى العادة نفس السلوك فى المواقف المتشابهة , ولهذا ليس من اليسير دائما توقع السلوك الانسانى . فالانسان كائن متلون يأخذ ما شاء له من الوان ؛ فيستطيع ان يلبس عبائة الحيوان او يتجرد من بدنه ويصير ملاك ؛ فيتجاوز حدود بشريته وحيونيته معا .
من هنا مثلت قضية الفكر والاخلاق حجر الزاوية فى تقييم السلوك الانسانى على مسرح العلاقات الانسانية , لا بين الافراد فقط , وانما على مستوى الدول ايضا , وما تعقده من اتفاقيات ومعاهدات يفترض فيها الاحترام الفكرى والاخلاقى لطرفيها .
بيد ان هذه الصورة المشرقة للمعاملات الانسانية قلما نجدها فى عالم تحكمه افكار واخلاق من يملك القوة , والدليل على ذلك ان اغلب المعاهدات التى عقدت عبر تاريخ البشرية الطويل كان الاقوى يحتفظ دائما بكل ما يكفل له السيطرة على الطرف الاخر , وهنا الاقوى هو الذى يفرض افكاره واخلاقه , بل وتصبح نبراسا يقتدى به الضعفاء !!
هذا من ناحية , ومن ناحية اخرى اذا تأملنا العلاقة الجدلية بين الانا فكر والانا اخلاق سنجد ان الانسان وان كان قد استطاع ان يحقق تقدما عظيما فى مجال الافكار , الا انه حقق فشلا ذريعا على مستوى الاخلاق , ولا ادل على ذلك من حالة الاغتراب التى يعيش فيها الانسان , تلك الحالة التى فصلت بينه وبين العالم من جهة وبينه وبين الاخر من جهة ثانية وفى بعض الاحيان بينه وبين ذاته من ناحية ثالثة , مفتقرا فى كل ذلك الى رؤية واضحة تبرر وجوده ككائن مفكر واخلاقى فى ذات الوقت . وقد برز ذلك واضحا فى التاريخ البشرى الذى يمتلوء بالصراعات , والذى اذا دل على شئ فانما يدل على ان الكائن الانسانى هو الكائن الوحيد الذى يقضى على ذاته بذاته , وكأنه نوع من التدمير الذاتى الذى يجب ان تمر به البشرية , او هو من متطلبات الحفاظ على التوازن البيولوجى للبيئة . ولعل ذلك ما يدفعنا الى القول بان الانسان الحق الذى تلتحم فيه الانا فكر بالانا اخلاق هو كائن على وشك الانقراض !!
No comments:
Post a Comment