مفهوم الانتحار فى الادب العالمى من هوميروس الى دستوفسكى
تعد ظاهرة الانتحار احد الظواهر القليلة التى شغلت الفكر الانسانى بكافة ابعاده ونواحيه , وربما لا يعادل الانتحار اهمية فى اهتمام الفكر الانسانى ببحثه وفحصه على كافة المستويات سوى الموت .
من هنا خضع الانتحار كظاهرة انسانية الى الفحص الادبى من عصر هوميروس وحتى دستوفسكى .
فنادرا ما نجد اعمال اديب ما تخلو من عمل يتناول ظاهرة الانتحار , سواء اخذت الاعمال الادبية صورة القصة او اخذت صورة المسرحية او اندرجت تحت لواء الاساطير , وعالم ما وراء المجسات الحسية والمحسوسات المرئية دائما ما نجد للانتحار مكانا ما فى هذا الادب او ذاك .
فكيف نظر الادب الى الانتحار : فهل هو فعل مباح ام لا ؟ وهل يعد الانتحار عملا اخلاقيا ام هو فعل مضاد للطبيعة الانسانية ؟ وهل يمكن تبرير الانتحار , بمعنى هل هناك ظروف معينة اذا مر بها الانسان يمكن تبرير الانتحار عقلانيا ؟
كيف اجاب الادباء على هذه الاسئلة ؟ دعونا نبحث ونفحص وننظر فيما ارتكنوا اليه من مبادئ ...
1- هوميروس :
هوميروس شاعر يونانى , عاش فى الفترة ما بين القرن الثامن والقرن السابع ق.م , ومن اهم اعماله : الالياذة Iliad والاوديسة Odyssey . اما الالياذة فتدور احداثها حول حرب طروادة Trojan War فى حين تدور احداث الاوديسة حول عودة اوديسيوس Odysseus بعد سقوط طروادة الى وطنه ايثاكا Ithaca .
وقد عرض هوميروس موقفه من الانتحار فى مؤلفه الاوديسة حيث يروى رحلة اوديسيوس الى العالم السفلى . ففى هذه الرحلة يقابل اوديسيوس " جاكستا " . وجاكستا وفق ما تروى الاسطورة قد تزوجت اوديب وهى لا تعلم انه ابنها , وانجبت منه اربعة اطفال .. ونتيجة لاكتشافها هذا الامر المفزع قررت جاكستا الانتحار . هنا يتعامل هوميروس مع الانتحار كفعل مقبول يصدر نتيجة موقف كارثى , لايمكن للمرء ان يتحمله , فصدمة اكتشاف هذه الحقيقة بالنسبة لجاكستا كان بمثابة النهاية التى لا يمكن ان يتلوها اى استمرارية وجودية .. فالانتحار هنا فعل مقبول وليس موضع استهجان اجتماعى , بل هو على العكس من ذلك امر مرحب به لا سيما اذا عزت البدائل , وتأزمت المواقف ..!!!
2- دانتى :
قدم دانتى موقفه من الانتحار فى مؤلفه الاشهر " الكوميديا الالهية " , وفى هذا المؤلف يرى دانتى ان الانتحار هو عنف موجه نحو الذات . هو ابادة ذاتية تنطوى على ضعف حب الانسان لذاته اولا .. ثم هو ثانيا , يدمر ما خلق الله .
فى ضوء ذلك رفض دانتى الانتحار , وذلك لانه من ناحية يبيد الموجود الانسانى ثم هو ثانيا يدمر الانسان الذى هو صنيعة الله .
لهذا كان جزاء الشخص الذى يقدم على انهاء حياته ان يكابد الويلات والعذابات فى الجحيم .
بيد ان دانتى لم يضع المنتحرين فى ذات المرتبة من مراتب الجحيم , ولكنه قام بتصنيفهم وفق دوافع الانتحار : فوضع كليوباترا فى المرتبة الثانية من مراتب الجحيم فى حين وضع يهوذا فى المنطقة الرابعة من الدائرة التاسعة فى اعماق الجحيم . وتفسير تباين هذه المراتب عند دانتى هو ان حب الله مقدم على حب الذات ومن ثم كان جزاء من يكفر بالله - كما هو الحال بالنسبة ليهوذا -هو المرتبة الرابعة فى الجحيم فى حين كان جزاء من يكفر بذاته ويقع فى اسر الخطيئة - كما هو حال كليوباترا - هو المرتبة الثانية من مراتب الجحيم .
من الواضح هنا ان اساس رفض دانتى للانتحار واعتباره اياه فعل مرفوض , انما يستند الى منطلقات دينية مصدرها الكنيسة التى كانت تشكل تعاليمها فى تلك الفترة القوة المحركة للشعور الفكرى الغربى . بيد انه يتجاهل الحرية الفردية ويسلب الانسان حريته فى انهاء حياته وهو ما سبق وان وجدناه عند افلاطون . فهنا لا نجد دانتى يقيم اى وزن للقرارات الانسانية او قدرة الانسان على ان يختار البدائل المتاحة امامه لكى يتخطى مواقف الحياة لا سيما تلك المواقف ذات الطابع المأساوى او الكارثى ..
3- دستوفسكى :
ربط دستوفسكى الانتحار بالاخلاق , الخلود , والارادة .. فيرى ان من لا يؤمن بالحياة بعد الموت , لا يستطيع ان يفهم وجوده الارضى على النحو الصحيح , وبدون هذا الفهم يصير الانسان كالحيوان , اذا وجد الباب مفتوحا , انطلق وهرب ..
ويرى دستوفسكى ان عدم اعتقاد المرء فى الحياة بعد الموت يقود الى اللامبالاه الاخلاقية . فالقول بان كل شىء سيموت فكل شىء مباح . وما دام كل شىء مباح , فانه يستطيع ان يفعل ما يحلو له , فيستطيع ان يقتل نفسه او يقتل غيره .
ويربط دستوفسكى بين الحرية والانتحار فيرى ان الحرية هى صفة خاصة بالانسان , وهى ما يجعل الانسان يشعر بانسانيته .
فى ضوء ذلك اعتقد دستوفسكى انه اذا لم يتوازن احساس الانسان بحريته مع اعتقاده بخلود النفس , فانه قد يرتكب اشياء مجنونة , لكى يثبت لنفسه انه حر . مثال ذلك " كريلوف " فى رواية " مذكرات فى العالم السفلى " انتحر لكى يثبت انه حر ويستطيع ان يتصرف وفق ارادته الخاصة . فيقول كريلوف بطل دستوفسكى فى هذه الرواية : اذا كان الله موجود فانه سيحول دون انتحاره , ولن يستطيع كريلوف ان ينهى وجوده بذاته . ولكن اذا نجح فى قتل نفسه , فانه يستطيع ان يفعل ضد ارادة الله , ويكون هو نفسه اله . ولما لم يكن هناك احد من قبل قد انتحر بهذا الدافع فيكون لكريلوف اذا السبق فى الانتحار , لكى يثبت لنفسه انه لا يعمل وفق الارادة الالهية , وانما يعمل وفق ارادته هو الخاصة .
فى رواية "الاخوة كارامازوف "يقدم دستوفسكى " ميردكوف " كانموذج للشخص الذى يعتقد فى انه لا يوجد شىء بعد الموت . يرى دستوفسكى فى توصيفه لحال بطله هذا ان عدم الاعتقاد بالحياة بعد الموت من الممكن ان يقود الشخص نحو حالة من اللامبالاة واللامسؤولية , ويفرغ الحياة من محتواها القيمى , ويصير العبث هو المصير المترقب لكل شىء , ما دام كل شىء مصيره الى زوال , يكون الصفر الكبير هو النتيجة النهائية والمؤكدة لكل شىء .
ان الشخص الذى يؤسس موقفه الحياتى على مثل هذه المعتقدات لن يجد امامه سوى الانتحار كمحاولة اخيرة لممارسة حريته , ويتجاوز فيها , وبها حدود العبث الوجودى : اذا كان الله غير موجود فكل شىء مباح , واذا كان كل شىء مباح , فان الانتحار مباح .
من هنا انتهى دستوفسكى الى الاعتقاد بان الايمان بعالم اخر بعد الموت , وان هناك استمرارية وجودية للوجود الانسانى على نحو ما بعد الموت , هو ما يكسب الحياة قيمتها وقيمها , ويجعل لها دلالة ومعنى .
فموقف دستوفسكى هنا هو موقف يكشف عن عقلانية وجودية واضحة , فهو لا يكشف على لسان ابطاله عن عبثية الوجود بقدر ما يكشف عن ضعف يقين المرء فى هذا الوجود , وهو بالتاكيد نمط من الضعف يتوارى خلفه اخفاق المرء فى ادراك الحكمة الدفينة من وراء وجوده , وعدم قدرته استيعاب فكرة ان هناك عالم ما وراء عالمنا الارضى .. وان الحياة هنا ليست هى الخطة النهائية للوجود الانسانى .. !!
No comments:
Post a Comment